تحت ضغط مالي وسياسي.. السلطة الفلسطينية تتراجع عن أهم ركائزها الاجتماعية وتقطع رواتب الأسرى

تحت ضغط مالي وسياسي.. السلطة الفلسطينية تتراجع عن أهم ركائزها الاجتماعية وتقطع رواتب الأسرى
احتجاجات ضد قطع رواتب الأسرى

اتخذت السلطة الفلسطينية واحداً من أكثر قراراتها إثارة للجدل منذ تأسيسها، بإعلانها وقف دفع الرواتب المعتادة لجميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية ابتداء من الشهر الجاري، وتحويل الحالات المحتاجة فقط إلى مؤسسة تمكين الاجتماعية التابعة لمنظمة التحرير، القرار الذي نُشر مؤخراً بمرسوم صادر عن الرئيس محمود عباس، لم يكن مجرد تغيير إداري، بل تحول سياسي واجتماعي يعيد تشكيل إحدى أكثر القضايا حساسية في التجربة الوطنية الفلسطينية.

وجاء في القرار أن مؤسسة التمكين الاقتصادي أصبحت الجهة الوحيدة المخولة بصرف المخصصات المالية ضمن معايير استحقاق محددة، وأن صرف أي مخصصات لأسر الأسرى والشهداء مشروط بتعبئة نماذج رسمية وتقديم ما يثبت الحاجة وفق أحكام القانون، ووفق ما أوردته صحيفة "الشرق" اليوم الاثنين، فإن الأسر المحتاجة فقط ستحصل على مخصص يتراوح بين 1400 و1880 شيكل شهرياً، في حين يتجاوز عدد الأسرى الفلسطينيين حالياً عشرة آلاف أسير بينهم مئات محكوم عليهم بالسجن المؤبد.

ضغوط ثقيلة وممتدة

لم يكن القرار مفاجئاً لمن يتابع الملفات المالية والسياسية التي تخضع لها السلطة منذ سنوات، فتل أبيب تقتطع شهرياً أكثر من خمسين مليون شيكل من أموال المقاصة منذ عام 2019، وهو المبلغ الذي يعادل ما تصرفه السلطة على رواتب الأسرى وأسر الشهداء، وبذلك أصبحت المخصصات نفسها جزءاً من الأزمة المالية التي تضرب جسد السلطة منذ سنوات، إذ تجد الحكومة الفلسطينية نفسها عاجزة عن صرف الرواتب بانتظام، وتلجأ إلى الاقتراض وإجراءات تقشف تمس كل القطاعات.

أما واشنطن فقد رفعت منسوب الضغط عبر تشريعات واضحة، أبرزها قانون تايلور فورس عام 2018 الذي يمنع تقديم أي مساعدات للسلطة إذا استمرت في دفع الرواتب للأسرى وعائلات الشهداء، ورافق ذلك سن قوانين تسمح لعائلات قتلى العمليات الفلسطينية برفع دعاوى تعويض ضد السلطة أمام المحاكم الأمريكية، ما زاد من الكلفة السياسية والمالية لاستمرار السياسة التقليدية تجاه الأسرى.

حساسية اجتماعية وسياسية

ويمثل هذا الإجراء تراجعاً عن سياسة وطنية راسخة منذ عقود، حيث كان الأسرى وعائلاتهم جزءاً من البنية التنظيمية والسياسية التي تستند إليها حركة فتح وسائر فصائل منظمة التحرير، وتاريخياً، لم تكن الرواتب مجرد دعم مادي، بل اعتراف بدور الأسرى داخل البنية النضالية الفلسطينية وإقراراً بحقوقهم وفقاً للقوانين الوطنية، ولذلك فإن إيقافها بهذه الصيغة يمثل تحولاً في الإطار المرجعي للعلاقة بين السلطة الفلسطينية وهذه الشريحة الواسعة والمؤثرة اجتماعياً.

في أوساط الأسرى المحررين وذويهم، يحضر القرار بوصفه ضربة مقلقة، ليس فقط لأن المخصصات كانت المصدر الوحيد لدخل مئات العائلات، بل لأن القرار يكسر الرابط الرمزي بين الأسير والسلطة التي طالما اعتبرت قضايا الأسرى جزءاً من واجباتها الوطنية، أما الفصائل الفلسطينية، فمن المتوقع أن تتعامل مع القرار بوصفه مساساً مباشراً بإحدى قضايا الإجماع الوطني، إذ لم يسبق لأي حكومة فلسطينية أن أقدمت على تعديل جذري بهذا الحجم في ملف الأسرى.

محاولة للالتفاف انتهت بالفشل

ورغم أن السلطة سعت في السنوات الماضية إلى إيجاد مخرج يحفظ دعم الأسرى دون الاصطدام بالضغوط الخارجية، فإن كل المحاولات اصطدمت بجدار السياسة الدولية، ففي عام 2014 جرى تحويل وزارة شؤون الأسرى إلى هيئة تابعة لمنظمة التحرير وليس للحكومة، في محاولة للفصل بين الموازنة الرسمية والرواتب، ثم جرى تحويل الصرف إلى بنك البريد بعد العقوبات التي فرضتها إسرائيل على البنوك التي تتعامل مع أموال الأسرى، إلا أن هذه الخطوات لم توقف إسرائيل عن الاستمرار في اقتطاع الأموال، كما لم توقف التشريعات الأمريكية التي تضع السلطة أمام خيار واحد هو الامتثال الكامل أو مواجهة عقوبات قاسية.

ارتدادات داخلية 

لا ينظر الفلسطينيون إلى القضية بوصفها مسألة مالية فقط، فالأسرى جزء من سردية المقاومة والهوية الوطنية، وتاريخياً شكلت رواتبهم رابطاً اجتماعياً بين السلطة الفلسطينية وقواعدها الشعبية، وقد يشكل القرار الحالي فجوة جديدة تضيف توتراً إلى العلاقة بين القيادة وجمهور واسع يشعر بأن حقوقه تقودها ضغوط خارجية لا خيارات داخلية.

ومن المتوقع أن تزداد الانتقادات داخل المخيمات والمناطق الريفية التي تمثل المعقل الأكبر لعائلات الأسرى، كما أن المؤسسات الحقوقية المحلية قد تتعامل مع القرار على أنه تراجع عن التزامات قانونية نصت عليها قوانين منظمة التحرير والقانون الأساسي الفلسطيني، أما على المستوى السياسي، فيخشى مراقبون من أن تستثمر حركات منافسة، مثل حماس، القرار لزيادة رصيدها الشعبي عبر التذكير بدعمها المالي للأسرى في غزة.

دلالات أبعد من الجانب المالي

يمثل القرار مؤشراً واضحاً على شدة الأزمة المالية التي تعيشها السلطة الفلسطينية، لكنه أيضاً يعكس درجة التآكل التي تتعرض لها قدرة القيادة الفلسطينية على اتخاذ قرارات مستقلة عن الضغوط الدولية، وللمرة الأولى منذ إنشاء السلطة، أصبحت إحدى أهم ركائز الهوية الوطنية خاضعة للمعايير التي تفرضها الدول المانحة، ما قد يعيد تقييم دور السلطة نفسها من حيث علاقتها بالحركة الوطنية التي نشأت في إطارها.

وفي الوقت نفسه، قد يرى البعض أن نقل المخصصات إلى مؤسسة اجتماعية وتحديد معايير استحقاق واضحة قد يقلل من التوتر مع المجتمع الدولي، ويعيد صياغة الملف ضمن إطار حقوقي اجتماعي وليس ضمن إطار سياسي أمني كما كان سابقاً، لكن النتائج الفعلية لهذا التحول لن تظهر إلا بعد اختبار ردود الفعل في الشارع الفلسطيني وتأثير القرار في الأسر غير المصنفة ضمن معيار الحاجة.

بدأت رعاية الأسرى والشهداء رسمياً منذ تأسيس مؤسسة رعاية أسر الشهداء والأسرى التابعة لمنظمة التحرير عام 1966، وكانت جزءاً من منظومة الدعم الاجتماعي للحركة الوطنية الفلسطينية، وتوقفت المؤسسة عن دفع المخصصات في بداية التسعينيات لأسباب مالية، ثم استؤنف الصرف بعد إنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994، وفي عام 2003 نص القانون الأساسي المعدل على أن الدولة تكفل رعاية خاصة للأسرى وأسر الشهداء والجرحى، وفي عام 2004 صادق الرئيس المؤقت روحي فتوح على قانون خاص ينظم مخصصات الأسرى والشهداء، وهو قانون بقي مثار جدل بسبب عدم توقيع الرئيس الراحل ياسر عرفات عليه حين أقره المجلس التشريعي عام 1999.

 وفي عامي 2010 و2011 وضعت لوائح الرواتب التي حددت المخصصات حسب سنوات الاعتقال وآليات الصرف، وذلك بتوجيه من رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض الذي رفع أيضاً مخصصات أسر الشهداء إلى مستويات أعلى لضمان حياة كريمة لهم، ومع بداية العقد التالي، بدأت الانتقادات الإسرائيلية والتشريعات الأمريكية التي اعتبرت هذه الرواتب حافزاً للهجمات، ما أدى إلى ضغوط متتالية انتهت بالقرار الأخير للسلطة الفلسطينية بوقف الرواتب واعتماد نظام استحقاق اجتماعي بديل.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية